قوارب الموت.. حين يبيع الشباب أعمارهم ليشتروا الوهم*
مريم الحيمر :الجنوبية بريس متابعة
في عزّ ليلٍ حالك، يركبون البحر على قوارب واهنة، لا تحمل سوى أجسادٍ أنهكها الفقر، وأحلامٍ أثقلها العجز. يتركون وراءهم أمهاتٍ يذرفن الدموع، وآباءً تحطمت قلوبهم قبل أن تتحطم أمواج الأطلسي والمتوسط على صدور أبنائهم. شبابٌ لم يجدوا في وطنهم سوى أبوابٍ موصدة، فاختاروا أن يطرقوا أبواب المجهول ولو بثمن أرواحهم.
هذه القوارب الصغيرة التي يُطلق عليها الناس “قوارب الموت” ليست مجرد وسيلة عبور، بل هي نعوشٌ عائمة، تحمل أحلام جيلٍ كاملٍ باع أعمارَه للموت، ليشتري به حياةً أخرى يظنها أفضل من جحيم وطنٍ ضاق بهم بما رحُب. فالوطن الذي كان يجب أن يحتضنهم، صار سجناً يحاصرهم بالفقر والبطالة والتهميش، حتى صار البحر أرحم من اليابسة.
كم من شابٍ ابتلعته الأمواج قبل أن يبلغ الضفة الأخرى! كم من جثة لفظها الشاطئ بلا اسمٍ ولا هوية، سوى دموع أمٍّ مكلومةٍ ونحيب أختٍ تنتظر عودته! إنهم ليسوا مجرّد أرقام في تقارير الهجرة، إنهم أبناء هذا الوطن، ثروته التي ضاعت بين فساد السياسات وعجز المسؤولين عن توفير أبسط شروط الكرامة.
الهجرة غير النظامية ليست مغامرة عبثية كما يصوّرها البعض، بل هي صرخة استغاثة من شبابٍ خنقهم الواقع، ودفعتهم الحاجة إلى بيع حياتهم في مزاد البحر. إنهم يهربون لا لأنهم يكرهون أوطانهم، بل لأن أوطانهم هي التي خانتهم وتركتهم عُراة في مواجهة مصيرهم.
قوارب الموت ليست لعنة البحر، بل لعنة البر. ما كان البحر ليبتلع أبناءنا لو وجدوا في اليابسة خبزاً وكرامةً ومستقبلاً. وما كان لليأس أن يغلب على قلوبهم لو وجدوا من يصغي لأحلامهم ويحتضن طموحاتهم.
إنه نزيفٌ مستمر، دماءٌ تُهدر، وأرواحٌ تُزهق، في زمنٍ يُقال فيه إننا نعيش عهد التنمية والازدهار. فأي ازدهار هذا الذي يهرب منه أبناؤه نحو موتٍ محقق؟ وأي وطن هذا الذي صار البحرُ أرحم من برّه؟
يا قوارب الموت، عودي من حيث أتيتِ، فقد سرقتِ منّا شبابنا، وأهدرتِ مستقبلنا. وليعلم كل مسؤول أن كل جثة يلفظها البحر ليست جثةً فقط، بل هي شهادة إدانة في حقهم، وتاريخ لن يرحم خيانة الوطن لأبنائه.