وريد الكوارتز ، أوردة الكادحين !
كلما هوت تلك المطرقة على رأس سندان الحديد الصلب أو الفولاذ كلما أخبرتك الصخرة الثابتة الهادئة بتهكّم : دعْك من هذا !
الغضب يجعلك لا تستسلم لسخريتها ، فالعالم أرسلك الى هنا و معك سلاح واحد هو الغضب !
عندما تصعد الجبل ، فالشيئ الوحيد الذي تريده حينها هو النزول عنه ! فلا شيئ هناك يُشعرك بتفوّقك أو ذاتيتك الصغيرة أو كل أمراضك النفسية التي تجلبها معك ، فالجبل لا يُعيرك اهتماما و لا يريده منك ، إلا إذا أردت الإلقاء بنفسك منه فسيتكفّل بتهشيم عظامك بكل بساطة !
في الأيام الأولى شدّنى صوت ذلك المتقاعد (العسكري) و هو يهوي على تلك الصخرة ناصعة البياض ، منهيا ضرباته بآهات كثيرة و بصوت قوي غاضب و كأنه يخاطب عجرفة الصخرة (أهّهاهْ ، أهّهاهْ) ، لكن بعد أيام قليلة أصبح العمّ الجميل صامتا بل و قليل الكلام ، كلّما أنهكت قواه الصخرة توجّه الى أخرى قريبة ليوقد النار و يخرج ابريقه الجميل من حقيبته المرتبة بعناية، ليضعه على النار و يسند ظهره الهش على صخرة ثالثة ليتأمل الصخرة الأولى !
كان آخر قريب كلما أنهكته صخرته ، يقهقه مازحا : دعوها و شأنها ! ثم يأتي متسللا من خلفها بدعوى مباغثتها !
كان ذلك المزاح الصباحي مُخفّفا ظرفيا للآلام و تحطم الآمال أمام الجبل ! فيفقد تأثيره مع تقدم ساعات النهار الطويل و الحار ، فتفقد النفوس اتزانها و تصبح حقيقية جدا و قذرة أحيانا لأتفه الأسباب ، هذا يذكّرني بقول عميق لأحدهم حين اعترف قائلا : لم أعرف أني بهذه الخِسّة حتى امتهنت هذه المهنة !
الصخرة البيضاء الناصعة تُدعى الكوارتز و هو أحد أوفر الصخور على سطح الأرض ثم أصلبها ، يأوي أحقر المعادن غالبا و أنذرها ناذرا ! و هي خاصية عامة تكاد لا تخطئ على سطح هذه الأرض ، فكل الأشياء الحقيرة هي متاحة بشكل لا يُصدّق.
واصل الجميع تشبّته بالأمل، رغم حجم القروح التي يعودون بها كل مساء الى أماكن عيشهم بعيدا في القمة الأخرى ، محمّلين بأكياس الحجارة فوق ظهورهم و الخوف من مصادفة قائد المنطقة الذي حوّلته الروايات الشفوية الى جنكيز خان ، أو إحدى ربّات القصاص في تراجيديا “إسخيليوس” الإغريقية حيث لا يتوقف عن الركض وراء أرواح المذنبين الكادحين ! فإن نجا هؤلاء بجلودهم أحرق الأرض و راءهم ! ذكّرني ذلك بقيصر روما عندما أحرق روما ليستمتع بالحريق ، و تلك حقارة من حقارات السلطة الكثيرة!
مرّت أسابيع من الشقاء و ذبلت الوجوه و تغيرت ملامح الرفاق و هزلت أجسامهم و بينما كان العمّ الصامت الجميل (المتقاعد) ، يشير إلينا بأطراف أصابع يده اليمنى ككل يوم، و يختار التوقيت المثالي لذلك لئلا يجذب إليه انتباه الآخرين و كأنه يُناور في معركة -لأن الشاي قليل و الخبز و الماء أنذر من أي شيئ آخر هنا – و بعد أن أعطى لكل واحد كسرته و رشفات ماء قال بصوت يملؤه الفخر : لا شيئ سيكسر هذه الصخرة سوى : النار !
قفزت الفكرة في أذهاننا و كأننا اكتشفنا النار للتو ! و خُيّل إلي أن العمّ الجميل يصيح بعبارة أرخميدس : “يوريكا .. يوريكا ” (لقد وجدتها .. لقد وجدتها) عندما اكتشف مبدأ الطفو ، كان حلا ذا فائدة بالفعل لكنه كان بداية لشقاء آخر جديد . بعد ذلك بأيام تغيّر واقع الجبل تحت لغة النار و الحديد التي فهمت معناها للتو ، ولم تنعم تلك الصخور بالبرودة منذ ذلك الحين .
التهمت تلك الصخور أطنانا من الحطب و تقدّم العمل بالفعل لكنه أشبه بعمل نملة ذؤوبة في تلة ، لا شيئ يمكنك فعله سوى مواصلة الضرب على رأس الصخور لتفتح فمها، بوسائل بدائية لكنها على الأقل مُتاحة للجميع و لا تملكها قوى احتكارية حيث لا أرباب عمل حيث لا رأسمال.!
في أحيان كثيرة تمنيت أن أكون ذلك الخيميائي الكاذب الذي يُحول معادن رخيصة الى أخرى ثمينة ، لأنهي كل وجوه البؤس من حولي ، حُلم مثالي حطّمته في لحظة الحقيقة المدوية ، حقيقة عثور إحدى مجموعات العمل ليس على عرق من عروق الذهب فحسْب بل على جيب أشبه بغرفة يخفيه الجبل بعناية ، ضمّ سقفا كريستاليا رائعا و مئات القضبان الذهبية المتبلورة و أطنانا من التربة الصفراء و المعادن ذات الألوان الزاهية كالمالكيت و البيريت و الرصاص ..!
منذ تلك اللحظة تغيّر كل شيئ ، و أصبح الكل حريصا على صخرته الصمّاء بحيث يحميها بكل الوسائل المُتاحة و يضع لها الحدود شرقا و غربا ، ونشبت لأجل ذلك المعارك و الصراعات الضارية ، و استُدل بالتاريخ و الجغرافيا على صحة الإدعاءات و الإفتراءات الواضحة ، و شُهد على ذلك صدقا و زورا ، ارتفعت وثيرة العمل لتشمل الليل و النهار و ظهرت أولى وسائل العمل الحديثة و أصحابها الإحتكاريين قادةً على فِرق الكادحين ، أزيحت أطنان الصخور العظيمة ، ولم يقف أبدا صوت المحركات و اشتعلت الحرائق في الصخور و أحرقت معها علاقات كثيرة بين الرفاق و بين الإخوة و بين الأغراب ! تحوّل الجبل لساحة صراع تحكمه القوّة ، و أصبح الكل يحشُد الكل ليسحق الكل! ليستأثر بالجبل و الثروة الكامنة .
فاضت النفوس بكل أنواع الجشع و سيطرت الأنا و فاقت في شموخها الجبل .
بعد عام واحد انتهى مخزون الوريد من الذهب و لم ينتهي بؤس الكادحين ! ذهب الذهب نحو الأسواق السوداء حيث سماسرة كل شيئ ، ليستقر في خزائن الأغنياء و الجامعين من جميع أنحاء العالم و في أعناق زوجاتهم اللاتي لا يعلمن شيئ عن مئات الرئات المتهالكة و عن ألوف الصراعات المميتة و العلاقات المدمرة و الأجساد المحروقة و العاهات الأبدية و الأرواح المدفونة حية .
انتهى وريد الذهب و انتهى معه حلم الجنة على الأرض ، فذهب الأرض جميعه لا يستطيع صناعة جنة بالقدر الذي يستطيع صناعة الجحيم .
انتهى وريد الذهب و لم تنتهي أصوات المطارق بحثا عن نبض وريد آخر !
بقلم: رشيد بونوارة