بين حرية التعبير ومسؤولية الكلمة : تأملات في خطاب “ماركسية على سنة الله ورسوله”
ياسيــن كحلـي
مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية:الجنوبية بريس متابعة
تظل حرية التعبير، بلا شك، من أعظم مكتسبات المجتمعات المتحضرة، فهي البوابة التي تسمح للأفكار بالظهور والتفاعل، وتتيح للمواطنين الفرصة لتقييمها بعين نقدية ووعي تام .. غير أن هذه الحرية، كما هي مكسب مهم، ليست مطلقة؛ إذ تتقاطع مع مسؤولية الفرد عن كلماته، وتضع أمامه تحديا مزدوجــا : تحقيق الأثر المرجو من الخطاب، وضمان انسجامه مع القواعد التي تحكم الحوار العام .
إن الخطاب الرصين ليس مجرد كلمات عابرة، بل هو بنـاء دقيق يتطلب وعيا لغويا، وفهما للمتلقي، وقدرة على صياغة الفكرة بطريقة واضحة وموحية، دون الإخلال بمصداقية الرسالة أو بجدية النقاش .
في كثير من النقاشات العامة، قد يظهر تعبير يمزج بين توصيف فكري وعبارة دينية في جملة واحدة، كما في المثال القائل بأن جهة ما “ماركسية على سنة الله ورسوله” هذا المزج بين البعد الأيديولوجي والبعد الديني يضع العبارة في مكانة مركبة، إذ يترك المتلقي أمام دلالتين متباعدتين، دون وجود رابط منطقي واضح يجمع بينهما . النتيجة المباشرة هي ضبابية المعنى، وفتح المجال لتأويلات متعددة قد تبعد الخطاب عن جوهر الرسالة أو الهدف المنشود من النقاش .
الخطاب العام الفعال، لتقواه ونجاعته، يحتاج إلى وعي مزدوج : وعـي بالمضمون ووعـي بالأسلوب .. فالخلط بين مفاهيم متباينة في سياق واحد، مهما بدا طفيفا، يشبه البناء الذي ترتص فيه مواد غير متجانسة؛ إذ يصبح الشكل هشـا والمعنى ضبابيا، وتفقد الرسالة أثرها في عقل المتلقي . وبدل أن يكون النقاش مساحة إنتاج فكرية، يتحول إلى جدل سطحي، يشتغل على الانفعالات أكثر من العقل، ويضع المتلقي أمام إحساس بالارتباك بدل الإقناع .
يتجاوز الانضباط اللغوي أهمية الجانب الجمالي للغة، فهو يرتبط بالمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية، فالخطأ في اختيار الكلمات أو سوء تركيبها لا يظل مجرد قضية أسلوبية؛ بل يتحول إلى فعل له أثر ملموس على المجتمع، وقد يولد انقسامات رمزية أو تشويشا على فهم المبادئ الجوهرية للنقاش .. وهنا تظهر الحاجة الملحة لإدراك أن الكلمة، قبل أن تكون أداة للتواصل، هي فعل اجتماعي يمتد أثره على مستوى الثقافة العامة ووعي الجمهور .
أما على المستوى التحليلي، يكشف التقييم الموضوعي لمثل هذه التعبيرات عن خطأ في التوفيق بين المعنى والأسلوب، مهما بدا طفيفا، يقلل من قوة الرسالة ويجعلها مادة للنقاش الانفعالي أكثر منها مادة للحجة العقلية .
فالتوفيق بين الفكر والدين، بين السياسة والمعتقد، يحتاج إلى حساسية لغوية، ووعي بالمحددات الرمزية والاجتماعية للكلمة، وقدرة على التمييز بين ما يقوي الخطاب وما يضعفه .. هذا الوعي هو ما يجعل الخطاب فعالا، قادرا على التأثير، وقابلا للفهم من قبل الجمهور دون توليد لبس أو استقطاب .
فمن حيث المنظور الاجتماعي، يمثل مثل هذا الخطاب فرصة لإعادة النظر في طرق التعبير العام، وكيفية صياغة اللغة لتصبح أداة للإقناع لا للإثارة، ولتكون وسيلة للحوار العقلاني لا للجدل العقيم .. فالقوة الحقيقية للكلمة تكمن في قدرتها على جمع المتلقين حول فهم مشترك، وتوسيع أفق الحوار، وإحداث أثر عقلاني متوازن، لا في إثارة الجدل أو الصدمة العاطفية . وفي أي نقاش، يظل الخطاب المتزن، الذي تحكمه وضوح الرؤية وانضباط اللغة، الضامن الوحيد لاستمرار الحوار المؤثر، وللحفاظ على الاحترام المتبادل بين أطراف النقاش .
وبالتالي فإن تحليل هذه الظواهر ليس مجرد ملاحظة للأسلوب، بل دعوة مستمرة لإدراك المسؤولية التي تترتب على كل كلمة تقال في الفضاء العام، حيث كل صياغة لغوية تحمل تبعاتها الرمزية والاجتماعية والسياسية .. فالخطاب الرصين، الذي يجمع بين الوضوح والتوازن، بين الفكر والمسؤولية، هو وحده القادر على جعل النقاش العام نافذا وهادفـا، ويحول الكلمة من مجرد وسيلة للتعبير إلى أداة للتأثير والفهم، مؤكدا أن مسؤولية التعبير لا تقل أهمية عن حرية التعبير نفسهـا .




