بقلم:عبد الخالق حسين : رئيس المجلس العلمي لطانطان
1- تعمدت أن أنشر صورتي بجوار “والدتي” شافاها الله.. ليلة رأس السنة الجديدة 2025..
وأنا أستحضر “خطورة الصورة” وتاثيرها في هذا العصر؛ خطورتها في الاتجاهين: نشر الخير و القيم الاسلامية السامية او عكس ذلك من نشر التفاهة و السفاهة..
غير أني أدرك ادراكا يقينيا؛ أن “الحق” أقوى من “الباطل” بقوة السر الالاهي الذي خلق منه “الحق”..
ومن “الحق القوي” الذي لن يهزم ابدا.. إلا في حالة تخاذل اهله؛ و وهنهم عن الدفاع عنه ؛ و تخليهم عن الاعتزاز به ..
و عدم التوسل بالذكاء و أوجه الحكمة المعاصرة في تسويقه ؛ مفهوم ( رضا الوالدين) وهو حق تأسست عليه قيمنا و أخلاقنا المغربية العريقة الضاربة في الحضارة والتاريخ ..
2- فمفهوم “رضا الوالدين” ؛ بما يختزنه من : الاسقامة الباطنية؛ و الشهامة؛ و التربية و الوفاء؛ واتزان الشخصية؛ والاعتراف بالجميل؛ و حضور الذاكرة؛ و العودة الى الذات؛ و عدم الانجرار و الانجراف مع دعوات الفردانية و عبادة اللذة الشخصية و الأنانية.. يبقى من دعائم الشخصية المغربية الأصيلة و المتميزة..
علاوة على أن “رضا الوالدين” ينم عن شهامة و أناقة حضارية ..
ويعبر عن استقلالية في الرؤية الوجودية و الفكر المتحرر من التقليد؛ و التبعية للفلسفات الابيقورية و العبثية و الوجودية السارترية السطحية.. و كلها تنتمي الى الدعوات ” المادية/ العلمانية” الممجدة للحرية الجسدية و الاجتماعية؛ والتي تقوم على نسف أي ارتباط عائلي مبني على “التعاقد الديني و الروحي” لانها تعتبر ما بني على الدين من التعاقدات يعبر عن تعاقد استعبادي و تملكي استحواذي..
3- فالنظرة المادية تدعو الى (قتل الأب) وتقصد تصفية الابوية و الأمومة؛ لان الاسرة بما هي أمومة وأبوة في جوهرها التأسيسي تحيل الى هذين المفهومين المناقضين لمنظومة القيم اللاحداثية و اللاتحررية..
فالامومة و الابوة ينتميان الى منظومة الاسرة القائمة على قيم : السمع والطاعة و خفض الجناح و عدم الانتهار و الصمت والتأدب.. و عدم التأفف و عدم النقد.. و تحمل قساوة التربية و المصاحبة بالمعروف والإحسان بعد الكبر.. واحترام الشيبة..وغيرها
4- والمتأمل بعمق في منظومة ( رضا الوالدين) سوف يدرك مصادمتها الصريحة لمفاهيم ( التحرر العائلي) الذي تبشر به الفلسفات الغربية المعاصرة بمختلف تلويناتها ؛ فهذه الفلسفات تقوم على مفاهيم : حرر ذاتك..و تمرد على مستعبدك / والديك !!.. لا تقبل “الأمر” من أحد؛ فأنت عاقل و حر و راشد .. و “الأمر” عبودية ( تذكروا موقف إبليس من الأمر الإلاهي بالسجود لآدم .. وكيف رفض إبليس الآمرية بإطلاق !!)
5- إن منظومة ( رضا الوالدين) تخترق كل قيمنا وأخلاقنا المغربية : فهي جوهر المحافظة على التماسك الأسري؛ و الأمن الإجتماعي المتجلي في انضباط الفرد للاعراف و القيم الجمعية؛ حياء من الوالدين، و حفاظا على سمعتهما داخل المجتمع.. ورضا الوالدين هو صمام صلة الرحم؛ و كل “التجمعات العائلية” والممتدة الى “القبلية” الإيجابية بماةهي آصرة أخوة واسعة ؛ و المعبرة عن ” قيم التواصل و التعاون و التراحم” و على المستوى السياسي هيى تمنيع جماعي بمصل ( المناعة الوطنية) وجمع الشمل و وحدة الكلمة ضد الكائد المتربص ..
6 – كما ان منظومة “رضا الوالدين” تساهم في الأمن الإقتصادي من خلال تمظهرين كبيرين:
أ – إن “رضا الوالدين” و شبكته الوجدانية المعقدة و المتفرعة هو الفاعل و الحافز الرئيس وراء كل التحويلات المالية لجاليتنا في الخارج التي تضخ في خزينة المملكة فوراء كل درهم يحوله فرد من الجالية حنين و شوق دفين غير معلن ؛ تنعشه و تسقيه في الذاكرة الوجدانية منظومة ( رضا الوالدين) و بالضبط هذه المصفوفة اللغوية الخالدة: ” عندك تنسى الوالدين”.. عندك تنسى خوتك..عندك تنسى لبلاد.. وفي تجليها المهذب و الفلسفي؛ عندما يودع الوالد والوالدة ابنهما المستعد للسفر بعيدا وغالبا تكون هذه آخر الكلمات اروحانية الخالدة لرضا الوالدين : ( سير اولدي الاه يرضى عليك..عندك تنسى راسك !!) وهي تدريج لقوله تعالي : ( نسوا الله ؛ الله فأنساهم أنفسهم).. و”نسيان الله” عمليا كما أثبتت التاريخ الاجتماعي و النفسي للاسرة يتجلى في التنكر لرضا الوالدين..
ب – إنه من المستحيل بمنطق الاقتصاد و الربح و المصلحة الشخصية ان نفسر هذا الارتباط الذي ربط المغاربة المهاجرين من سنوات الخمسينات و الى اليوم بمملكتهم الشريفة ؛ لقد وجدوا في ارض الغربة كل الامكانات المادية التي حسنت أجورهم و صحتهم و تعليمهم وتعليم ابنائهم و ادخلتهم جنة الرفاه التي لم يكونوا يحلمون بها..
فما الذي يجعل أحدهم يجمع حقائبه ليسافر من أقصى الأرض بمناسبة عيد الأضحى ؛ و يطير ساعات طويلة جوا ليقضي “ثلاثة ايام” عيد الاضحى فقط مع والديه !! ثم ينقلب عائدا الى مهجره !!..إنه سر رضا الوالدين..
7- إن (مرضي الوالدين) يستبطن شعلة لا تنطفئ من القوة والقدرة والارادة والعزيمة و التفاؤل و الجرأة و التحدي و الدعم النفسي.. و فوق هذا من “المدد الروحاني” و “الألطاف الالاهية” التي تديمها “دعوات الأم والأب الخفية في جوف الليل..
8- خلاصة:
“أيها التائه” في دروب الفلسفة و متاهات الجدل العالي؛
لا أحد ينصحك بشرب الماء و أخذ حصتك من الأوكسجين؛ بل هو العطش و الخوف من الإختناق يهديانك إلى الحق الذي هو الشرب و أخذ النفس..
فاعلم فتح الله بصيرتك؛ أن “الشرب الحقيقي” بعد شربك الأول من حليب أمك.. هو شربك من رضاها و دعواتها..
و ان “الهواء الاول” الذي أمدتك به أمك في بطنها و ما اختنقت يوما.. لازلت محتاجا إليه؛ مادامت “أمك حية” تترقب عودتك..
فاجمع شملك..و انس فلسفتك..وعجل بوصالك و صلتك و زيارتك لها..
فإنما هي أمك واحدة ووالدك واحد .. و حياتك واحدة..و شربك الروحي واحد ؛ و مفتاحه واحد لا يتعدد : (رضا الوالدين) ؛ وتدبر إن شئت فتح بصيرتك و بلوغ مرادك قول الجليل : (وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا ؛ اما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما؛ فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما ، واخفظ لهما جناح الذل من الرحمة؛ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) ..